الطاعون الأسود بالمغرب
الطاعون الأسود بالمغرب
الطاعون الأسود بالمغرب
الطاعون الأسود بالمغرب
ظل المغاربة يعانون في تاريخهم من دوريات وباء الطاعون الذي كان يطل عليهم- حسب الحسن الوزان- كل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة أو خمس وعشرين سنة.
ظل المغاربة يعانون في تاريخهم من دوريات وباء الطاعون الذي كان يطل عليهم- حسب الحسن الوزان- كل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة أو خمس وعشرين سنة.
لقد ظهر وباء الطاعون الأسود الذي ألمّ بمعظم مناطق العالم القديم بآسيا الوسطى، ومنها انتقل من فيروس تحمله القوارض إلى الإنسان عبر موانئ البحر المتوسط إلى أوربا وشمال افريقيا في الفترة المتراوحة ما بين 1347 و1352م.
وكان لسان الدين ابن الخطيب ممّن عايش هذا الوباء وكتب فيه رسالة علمية سمّاها "مقنعة السائل عن المرض الهائل"، وأورد عن مصدره: "...إن قيل ما عندكم في أصل هذا الوباء ومذ كم ظهر في الأرض، قلنا هذا الواقع ابتدأ بأرض الخطأ والصين في حدود عام أربعة وثلاثين وست مائة، حدّث بذلك غير واحد من أولي الرحلة البعيدة والجولان كالشيخ القاضي الحاج أبي عبد الله بن بطوطة وغيره...".
ومن الملاحظ أن المصادر التاريخية المغربية لم تميز بين الأوبئة والطواعين قبل حدوث الطاعون الأسود-علما بأن هذه التسمية لا ترد بتلك المصادر، بل هي ترجمة لما هي عليه بالمصادر اللاتينية "Peste noire"، وأما مصادرنا المغربية فتورد تسمية "الوباء الأعظم" أو "الوباء الجارف"....- فهذا ابن عذاري المراكشي يتحدث عن أحداث عام 571 ه قائلا: "نزل الوباء والطاعون بمدينة مراكش في شهر ذي القعدة.
ولم يعهد مثله فيما تقدم من الأزمنة قبله وانتهى عدد الأموات في كل يوم مائة إلى مائة وتسعين شخصا ، وأكثر من ذلك حتى وأن الناس لا يستطيعون حملهم إلى الجامع للصلاة عليهم...".
غير أنه مع طاعون 748 ه/ 1348 م أصبح بالإمكان التمييز بالمصادر ما بين الأوبئة والطواعين، بل إن ذلك الطاعون أصبح من أهم مرجعيات الذاكرة الجماعية بالبلدان الإسلامية والمسيحية على حد سواء. فقد تحدث ابن هيدور (ت 816 ه/ 1413 م) في رسالته "ماهية الأمراض الوبائية" عن الطاعون الثاني تمييزا له عن الطاعون الأسود، ووصف ابن قنفذ هذا الأخير بكونه "الوباء الأول العام في الأرض"، وبالوصف ذاته وصفته حوليات مسيحية لما اعتبرته"أول طاعون عام". وتتفاوت أعراض الطاعون – كما وردت بالمصادر- ما بين ظهور الدّماميل على جسم المصاب وبصقه الدم.
يحيل المظهر الأول على نوع "الطاعون الدّملي" الذي قد يترك للمصاب هامشا ضعيفا للشفاء، بينما يحيل المظهر الثاني على نوع" الطاعون الرئوي" الذي تكون الوفاة من جرائه محققة.
اكتفت المصادر المغربية بإشارات انطباعية عن هول المصاب والخسائر البشرية، من قبيل" كاد أن يأتي على الخلق أجمع" أو إنه " لم يسمع بمثله"...، بينما نتوافر على معطيات رقمية عن ضحايا الطاعون بمناطق أخرى، فقد فقدت فلورنسا بإيطاليا يوميا شخصين من ضمن كل خمسة أشخاص، وبلغ عدد الضحايا بتونس ألف شخص يوميا ، ويشير ابن خاتمة في كتابه "تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد" إلى فقدان مدينة المرية بالأندلس ل700 شخصا كل يوم.
وفي غياب إشارات رقمية عن عدد ضحايا الطاعون الأسود بالمغرب، فممّا لا شك فيه أنه أحدث نزيفا ديموغرافيا به، وقد ظل الطاعون يؤدي إلى "مجازر" حقيقية في البنية السكانية طوال تاريخ المغرب، إذ – كما هو معلوم- لم يتمكن العلماء من اكتشاف لقاح ضد انتشاره إلا مع سنة 1894 على يد الطبيب السويسري" الكسندر يرسن"، وأصبح الفيروس الناقل للوباء يعرف ب"يرسينية الطاعون".
وفي غياب لقاح علمي له، أطال الوباء زيارته للمغرب إبان الطاعون الأسود لأكثر من سنتين، بل يمكن القول من خلال كتب التراجم إنه استمر في حصد ضحاياه للسنة الثالثة. ولعل الصورة القاتمة التي قدمها ابن خلدون بمقدمته – على قصرها –، وهو الذي فقد والديه بفعل الطاعون، كافية كشهادة حية عن هول الجائحة، فقد "انتقص عمران الأرض بانتقاص البشر.... وخلت الديار والمنازل...وتبدل الساكن...."، وقد كانت المخلفات الاجتماعية والنفسية للطاعون إحدى الأسباب الرئيسة التي دفعته إلى أن ينزوي بقلعة بني سلامة ، ويشرع في الكتابة الأولية لمؤلفه الرائع "كتاب العبر" . كما قدم المتصوف ابن عباد شهادة مأساوية عمّا فعله الطاعون بسكان فاس، إذ كان "يتخطفهم واحدا واحدا وجماعة جماعة، ولم يعد فرق بينهم وبين القطوط والكلاب، وقد يصبح بعضهم في أزقة المدينة.... بمنزلة جيفة من الجيف"، ولم يفته أن يندد بغلبة الأنانية على بعض الميسورين الذين يسميهم بـ"المزخبين "وعدم التفاتهم لمساعدة الفقراء وأهل الخصاصة، فقد كانوا يتلاعبون بأنواع الطعام في خضم الوباء " في ديارهم ومنازلهم بين خدمهم وحشمهم ويريقون ما فضل منها في المجاري والقنوات".
إن مما زاد من حدة انتشار العدوى وارتفاع عدد ضحايا الوباء، ضعف الوسائل الطبية أو انتفاؤها كلية، لأن الناس – حسب الحسن الوزان- لم يكونوا يهتمون بالوباء" ولا يُستعمل أي دواء باستثناء التمسح بالتراب الأرميني حول دمل الطاعون" . وفي مجتمع يحكمه المقدس، كان اللجوء إلى المتصوفة أمرا مطلوبا من أجل الاستشفاء.
يحكي ابن عباد في رسائله الكبرى أن أحد الآباء قدم إليه بماء وحناء ليرقى له من أجل إشفاء أبنائه الثلاثة الذين ضربهم الطاعون، غير أن رقيّا المتصوف لم تجد نفعا لأن كل الأبناء ماتوا بفعل الوباء. ومن اللافت أن المصادر المغربية، خاصة المناقبية منها تعج بالإشارات التي يفيد منطوقها أن الناس اعتقدوا بمفعول كرامات المتصوفة في علاج أمراض مستعصية مثل البرص والعمى والقروح، لكن يبدو ألا وجود لإشارات تفيد بأن بكراماتهم شفي مرضى الطاعون.
إن كرامات المتصوفة في الإشفاء والعلاج – حسب ما كان يعتقد به المغاربة آنذاك- تنحصر فقط في الأمراض ذات الطابع الفردي ، وأما الأمراض الوبائية مثل الطاعون، فإنها لا تظهر مطلقا في كتب المناقب، إلا إذا اقترنت بسبب وفاة المترجم له، فكأنما وقع الإجماع على عجز "بركة" الصالح عن مقاومة الأمراض في مستوى الطواعين.
ومن اللافت أيضا أن سنة 749 ه و750ه تحضران في الغالب بكتب التراجم المغربية للإشارة إلى وفاة المترجم لهم بسبب الطاعون، وهذا أيضا حال بعض من ترجم لهم ابن خلدون من العلماء في كتابه "التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا".
لقد انتقلت الديموغرافية التاريخية من تحليل المكنزمات الديموغرافية إلى تحليل السلوكات الجماعية، ولم تعد تبحث في المضاعفات الديموغرافية للكوارث والمجاعات والأوبئة فحسب، بل تجاوزتها للتأمل في نوعية الحالة النفسية زمن الجائحة وردود فعل الإنسان السلوكية.
ويمكن القول إجمالا إن جائحة الطاعون الأسود حضرت في مخيال المغاربة واعتقاداتهم من خلال موقفين أساسيين. اعتبر الموقف الأول أن الوباء أمر مقدّر حلّ بالناس لسقوطهم في الحرام والمحظورات وتفسخ الأخلاق، ويبلور ابن عباد هذا الموقف في تعليله لسيادة الجفاف بعيد الطاعون لمّا يقول: "إن الذي ينافي الاستسقاء إنما هو المنكرات التي يفعلها عوام الناس والرعية ولا أحتاج إلى ذكرها لكثرتها، فيكون ما أصيبوا به من القحط عقوبة لهم أو تأديبا على ما صنعوا من ذلك".
أما الموقف الثاني فانطلق من معطيات تجريبية لتفسير اجتياح الطاعون للمغرب. ويمثله ابن خلدون في مقدمته الذي قرن الوباء بفساد الهواء "بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة.... فإذا كان الفساد قويا وقع المرض في الرئة، وهذه هي الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة...". وفي خضم الهلع الذي يواكب الجائحة، تزداد الحاجة إلى البحث عن مصادر الخلاص، ولا غرابة أن تزايد رجال الولاية والتصوف في تواكب مع انتشار الطاعون، ولعل الخريطة التي قدمها ابن قنفذ عن التصوف بالمغرب آنذاك أحسن معبر عن ذلك، حيث إن أرضه كانت "تنبت الأولياء كما تنبت الكلأ".
كما أسهم الوباء في ازدياد انتشار ظاهرة ادعاء المهدوية، ومن أهم طوائفها تلك التي يسميها ابن خلدون بالفاطمية التي كان أتباعها يقصدون رباط ماسة بأرض سوس يتحينون بها ظهور المهدي، كما ظهرت بتينمل فرقة تبشر بعودة دولة المصامدة على يد المهدي المنتظر.
لقد أفرز الطاعون مجموعة من الكتابات عكست مواقف الناس من الوباء ضمن اتجاه يعرف بـ"أدبيات الطواعين" التي ظلت تستحضر المرجعيات الدينية نفسها، وقد تمحورت أساسا حول ثلاثة أحاديث نبوية هي: "لا عدوى ولا طيرة..." و"لا يحل الممرض محل المصح وليحل المصح حيث شاء" و"فرّ من المجذوم فرارك من الأسد". أفضت المسألة إلى اتجاهين يعتبر أولهما أن الفرار من الوباء غير مجد لأنه قدر مقدّر، وهو عقاب إلاهي موجه إلى الكفار ومناسبة للمؤمنين للظفر بالشهادة والرحمة، واتجاه يقر بالمشيئة الإلهية في ما يلحق بالإنسان من جوائح، ويدعو إلى الاحتراز من العدوى كسبيل لتجاوز الوباء. ويمكن اعتبار ابن الخطيب، وهو الطبيب، من أهم – إن لم يكن أهم- من خاض في مسألة حقيقة العدوى أو عدمها، وناظر بشدة منكري العدوى في رسالته " مقنعة السائل" بشكل اتخذ أحيانا طابعا صداميا، وكتب بشأن ذلك :
"لا ينكر العدوى إلا أحد رجلين، إما منافق يقول بلسانه ما لا يعتقد بقلبه، وإما جاهل ما حضر وباء قط" ويفحم منكري العدوى ببسطه عناصر مستوحاة من العلم التجريبي:
"وقيل كيف تسلم العدوى وقد ورد الشرع بنفي ذلك، قلنا وقد ثبت وجود العدوى بالتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواترة..."، ولا يتردد في تقديم بعض الأمثلة الدامغة عن حالات نجت من عدوى الطاعون بأخذها بمبدأ الاحتراز والانعزال، ومن ذلك تواتر الأخبار "بسلامة أماكن لا تطالها الطرق ومنقطعة عن الناس" ثم يبسط حالتين نجح بهما الاحتراز لتفادي العدوى، أولاهما من الأندلس: "ولا أعجب لهذا العهد من سجن الأسرى من المسلمين أنقذهم الله بدار صنعة إشبيلية، وهم ألوف لم يصبهم الطاعون، وقد كاد يستأصل المدينة" وثانيهما من المغرب، وبالضبط من مدينة سلا حيث بادر المتصوف ابن أبي مدين إلى فرض حجر صحي على نفسه وعلى عياله وأهله" وكان من القائلين بالعدوى، وقد تزود لمدة، وبنى باب منزله على أهله وهم كثيرون، وفنيت المدينة، ولم يرزأ نسمة واحدة بطول تلك المدة".
ألم يكن ابن الخطيب وابن خاتمة وابن خلدون وابن هيدور وغيرهم ممّن عايشوا الطاعون الأسود، ودعوا إلى ضرورة الاحتراز منه والأخذ بحجر صحي لتجاوزه ووقف العدوى سابقين عن عصرهم؟ وأين نموضع زمنيا أفكار من لا يقرّون بالعدوى حاليا جراء وباء "كورونا"، وقد يستهزؤون من دعاة الحجر الصحي بحجة أن الفرار من الوباء بدعة ضالة وشنيعة؟ لا شك أن ثمة بون شاسع بين التوكل والتواكل....
تعليقات
إرسال تعليق